لطالما كان توسع الكون أحد أعظم ألغاز الفيزياء الفلكية، لكن السؤال الأخطر اليوم: هل يتسارع توسع الكون بالفعل، أم أن فهمنا يواجه معضلة كارثية في الفهم؟ منذ أن اكتشف علماء الفلك في أواخر القرن العشرين أن الكون لا يتمدد فقط، بل يتمدد بتسارع، غيّر هذا الاكتشاف نظرتنا لمصير كل شيء من حولنا. اعتمدت هذه النتيجة على مراقبة انفجارات المستعرات الأعظمية من النوع Ia في المجرات البعيدة، والتي عملت كـ"شموع معيارية" لقياس المسافات. بعد هذه النتائج بدأت نظريات جديدة تظهر حول وجود طاقة مظلمة غامضة تقود هذا التسارع، حتى أصبحت الطاقة المظلمة اليوم الركيزة الأساسية لأي نموذج كوني حديث.
أزمة القياسات المتضاربة: التوتر الكوني الجديد
بدأت الأعراض العملية للأزمة تظهر خلال العقد الأخير. علماء الفلك يستخدمون طريقتين رئيسيتين لقياس سرعة توسع الكون، التي نسميها ثابت هابل. الطريقة الأولى تعتمد على مراقبة المستعرات الأعظمية والمجرات القريبة، بينما تعتمد الطريقة الثانية على تحليل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي؛ أي الضوء القديم الذي وفّره الانفجار العظيم قبل أكثر من 13 مليار سنة. المشكلة، أن القيم الناتجة عن الطريقتين تختلف بشكل ملحوظ – مقدار الاختلاف أكبر مما يرى العلماء أنه يمكن تفسيره بالأخطاء التقليدية في القياس. هذه الفجوة تُعرف اليوم بين العلماء باسم "أزمة هابل" أو Hubble Tension.
ما هي الطاقة المظلمة وما علاقتها بتسارع الكون؟
يُقدر الخبراء أن الطاقة المظلمة تمثل حوالي 68% من محتوى الكون الكلي. حتى الآن، لا أحد يعرف بصورة دقيقة طبيعة هذه الطاقة، فهي تختلف عن المادة العادية والمادة المظلمة التي لا تصدر أو تمتص الضوء. بحسب النماذج الحالية، تعمل الطاقة المظلمة ضد الجاذبية، فتدفع المجرات بعيداً عن بعضها بقوة تجعل التوسع يتسارع مع الزمن. ومع ذلك، يرى بعض العلماء أن عدم توافق نتائج القياسات يمكن أن يشير إلى حاجة إعادة نظر في شكل الطاقة المظلمة أو دورها، وربما حتى وجود أنواع جديدة غير مكتشفة من المادة أو القوى. هذه الاحتمالات الجريئة تهز أركان نظرية الفيزياء الكونية كما نعرفها.
الأدلة العلمية الحديثة: قائمة قصيرة بالنتائج المدهشة
شهدت الأعوام القليلة الماضية اكتشافات مثيرة زادت من غموض المشهد:
- رصد تلسكوب هابل وتلسكوبات فضائية أخرى سرعة توسع الكون بدقة أعلى، وأكدت نتائجها وجود اختلاف واضح مع قياسات إشعاع الخلفية الكونية.
- بيانات مرصد بلانك الفضائي، المختص بقياس إشعاع الخلفية الكونية، أعطت قيمة لثابت هابل أقل بحوالي 9% من القياسات المعتمدة على المستعرات الأعظمية.
- بعض الفرق البحثية وجدت أدلة على أن هناك تحولات كبيرة قد طرأت على سلوك الطاقة المظلمة خلال عمر الكون، في حين تشير نتائج أخرى إلى وجود عيوب في طرق القياس نفسها.
- عمليات المسح الراديوية الجديدة، مثل مشروع DESI وVera Rubin Observatory، ستسمح بجمع كميات ضخمة من البيانات الدقيقة قبل نهاية العقد الحالي. هذه الأدلة تجعل العلماء في مواجهة خيارين: إما الحاجة لتعديل فهمنا لفيزياء الفضاء، أو أن هناك خطأ أساسي في طرق المراقبة الحالية.
ما الذي يعنيه توسع الكون المتسارع لمستقبل البشرية؟
لو صحّ أن توسع الكون يتسارع بوتيرة مرتفعة، فهذا يهدد بفقدان الاتصال بين المجرات البعيدة يوماً ما. مع استمرار التسارع، ستتباعد المجرات إلى درجة أن الضوء منها لن يصل إلينا أبدًا، وسندخل حقبة "العزلة الكونية" حيث تقل المصادر الكونية المتاحة للبحث العلمي. يدور جدل بين العلماء حول النهاية المحتملة لهذا السيناريو؛ بعض النماذج تقترح بداية تمزق عظيم (Big Rip) عند حد معين، حيث تبدأ حتى الذرات نفسها بالانفصال، بينما يرى البعض الآخر أن التسارع قد يتباطأ مع الزمن أو يتوقف كليًا. ليس هذا مجرد سؤال أكاديمي، بل يغيّر تصورنا عن مصير الكون الكامل، ومستقبل فهم البشرية لوجودها.
أفق جديد للبحث العلمي: هل سنكتشف مفاجآت في السنوات المقبلة؟
في مواجهة هذه الأزمة، يعمل علماء الفلك والفيزياء حول العالم على تطوير أدوات أدق ونظريات أكثر شمولاً. مشاريع كمراصد الموجات الثقالية، وتلسكوب جيمس ويب الفضائي، ودراسات عدسات الجاذبية، جميعها ستقدم بيانات غير مسبوقة ربما تحمل إجابات جديدة. مهما كانت النتيجة، فإن أزمة تسارع توسع الكون تمثل فرصة ذهبية لإعادة اكتشاف قوانين الطبيعة، وربما التوصل إلى فيزياء جديدة بالكامل. من يدري، قد تقودنا هذه البحثية الشجاعة لسر الطاقة المظلمة، أو حتى للطبيعة الحقيقية للزمان والمكان أنفسهما. المؤكد أن رحلتنا في الفهم لم تنته بعد، وأن التفكير في توسع الكون وتسارعه أصبح واحدًا من أكثر الأسئلة إثارة وتشويقًا في القرن الحادي والعشرين.