
في السنوات الأخيرة، اجتاح مصطلح “الهِغّه” (Hygge) الدنماركي الأصيل مواقع التواصل الاجتماعي ومقلات العيش العصري حول العالم، حتى بات جاذباً للباحثين عن الراحة النفسية والدفء وسط نمط الحياة السريع في المدن الكبرى. كلمة “الهِغّه” تعني بالدنماركية "إحساس بالدفء والراحة والرضا"، ويرتبط أساساً بطريقة الشعوب الاسكندنافية في التعايش مع أيام الشتاء الطويلة والبرد القارس من خلال خلق أجواء من الأمان والحنين والبساطة داخل المنزل وبين أفراد العائلة والأصدقاء. لكن، ما سر شهرة هذه الفلسفة المحلية، لماذا باتت اليوم ترنداً عالمياً تتسابق على تطبيقه علامات تجارية كبرى وحتى مصممي الديكور، وما مدى واقعيتها خارج حدود الدول الاسكندنافية؟
مع تسارع التكنولوجيا وازدياد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، باتت مظاهر القلق وقلة التركيز والاغتراب تسيطر على مساحات متزايدة من حياة الناس، وبرزت الحاجة لإعادة اكتشاف مصادر السكون اليومي والتواصل الإنساني الحقيقي. هنا، عُرضت فلسفة “الهِغّه” كحل عملي يعيد للأشخاص توازنهم ويمنحهم القدرة على الاستمتاع بلحظات صغيرة تبدو تافهة، لكنها تمنح الدفء الحقيقي للحياة، مثل شرب الشاي الساخن في جو أسري، أو الاجتماع حول شمعة مضاءة في ضوء خافت، أو حتى ارتداء الجوارب المصنوعة يدوياً.
الباحثون يفسرون تصاعد شعبية الهِغّه عالمياً، خاصة في 2025، بفعل رغبة الناس في تبسيط حياتهم والعودة إلى العادات الصحية التقليدية بعيداً عن ضغوط الاستهلاك السريع.

عناصر الهِغّه: كيف نصنع الراحة بقالب عملي؟
كي تعيش “الهِغّه” حقاً يجب دمجها في تفاصيل الحياة اليومية وليس الاقتصار على الأمور الشكلية. يعتمد الاسكندنافيون على بعض العناصر الجوهرية لتحقيق هذه الفلسفة، وتتلخّص غالباً في:
- الضوء الدافئ: الشموع أو الإنارة الصفراء الهادئة التي تخلق شعوراً بالسلام والدفء
- الملابس المريحة: خصوصاً الصوفية أو القطنية، وتكون غالباً بألوان ترابية أو هادئة
- المشروبات الساخنة: الشاي، القهوة، أو الكاكاو، ويتم الاستمتاع بها في طقوس هادئة
- الوجود مع الأحبّة: قضاء وقت مع العائلة أو الأصدقاء بعيداً عن هواتف المحمول
- الديكور الطبيعي: خشب، صوف، نباتات داخلية، واستخدام البساطة في اختيار الأثاث
هذه المظاهر تعد رموزاً للجوهر الحقيقي للهِغّه: الشعور بالأمان والارتياح والرضا، مهما كانت الظروف خارج المنزل.
الهِغّه تتجاوز الحدود: ترند عالمي يعيد تشكيل أنماط الحياة
رغم أن أصل الهِغّه دنماركي صميم، إلا أنها لم تعد حكراً على الاسكندنافيين فقط. في السنوات الأخيرة تبنّت مجتمعات في أوروبا وأمريكا وآسيا هذا المفهوم، بل أصبحت متداولة في تصميم المنازل، المطاعم، وحتى في استراتيجيات التسويق العالمية. تشير تقارير السوق لعام 2024 إلى أن المنتجات المعبّرة عن الهِغّه – مثل الشموع المعطّرة، البطانيات الناعمة، أكواب السيراميك، والمأكولات المنزلية الصنع – تحقق نسب مبيعات عالية بشكل ملحوظ مقارنة بالمنتجات التقليدية. كذلك ازدهرت كتب الهِغّه في قائمة الأكثر مبيعاً حول العالم، ما يؤكد أن هناك عطشاً متزايداً لمعانقة البساطة والراحة، بعيداً عن صخب الحياة العصرية.

الفارق بين الهِغّه والمفاهيم الأخرى للرفاهية
قد يخلط البعض بين “الهِغّه” ومفاهيم مثل “المينيماليزم” أو “السلو ليفينغ”، لكن الهِغّه تمنح بعداً أكثر إنسانية وعاطفية. صحيح أن الهِغّه تركز على تقليل الزخرفة والتباهي وشراء ما لا يلزم، لكنها تحتفي كذلك بالدفء العائلي، اللحظات الإنسانية المشتركة، والمتعة في التفاصيل الصغيرة التي نصنعها بأيدينا. فهي ليست دعوة للعزلة أو التقشف، بل دعوة للشعور بالانتماء والطمأنينة عبر عادات تكرارية تعزز الاستقرار النفسي والاجتماعي.
توضح التجارب الشخصية لعرب يعيشون في اسكندنافيا أن تطبيق الهِغّه أحدث فارقاً في توازنهم النفسي وأسلوبهم في التنشئة والتواصل الأسري.
هل يمكن للهِغّه أن تناسب ثقافتنا العربية؟
إن البحث عن الدفء الاجتماعي والشعور بالانتماء ليس غريباً عن الثقافة العربية، بل نجد جذور الهِغّه في جلسات السمر العائلية، ضيافة الشاي والقهوة، واللقاءات البسيطة في الديوان أو الصالون المنزلي. إلا أن استلهام فلسفة الهِغّه يدفعنا لتجديد الاهتمام بالتفاصيل التي غابت عن وعينا مع زحمة الروتين والاستهلاك، مثل أجواء الإنارة المنزلية، خلق طقوس أسبوعية للراحة، وتخصيص أوقات منتظمة للتواصل العائلي دون شتات شاشة الهاتف.
إن التناغم بين روح الهِغّه وقيمنا التقليدية يتيح لنا فرصة إعادة اختراع أسرار الدفء والسكينة النفسية، واللحظة التي نحافظ فيها على هويتنا مع الاستفادة من أحدث الصيحات العالمية في فن العيش، ليبقى وسائل الراحة أبداً في متناول أيدينا، مهما تغيّر الزمان.