
في أعماق الفضاء السحيق، حيث يعجز البشر عن الوصول ويعم الصمت حسب تصورنا، تمكنت تقنيات وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" من التقاط أصوات مذهلة أطلقت عليها اسم "أغنية الكون". هذه الأصوات ليست موسيقى تقليدية، بل هي نبضات وموجات كونية ترجمتها أجهزة استشعار فائقة الحساسية إلى صوت يمكننا سماعه. عندما أعلنت ناسا عن تسجيل هذه "الأغنية"، أثار الخبر اهتمام الملايين حول العالم، حيث كشف عن سر جديد من أسرار الفضاء والمجرات البعيدة. فبينما يعتقد البعض أن الفضاء مجرد فراغ صامت، أثبتت هذه التسجيلات وجود أصداء كونية مذهلة تختلف جذرياً عن أي شيء سمعناه من قبل.
كيف سُمعت أصوات الفضاء رغم غيابه عن الصوت؟
ربما يتساءل البعض: "كيف يمكن سماع أصوات في الفضاء بينما هو فراغ خالٍ من الهواء؟". في الواقع، لا تنتقل الموجات الصوتية في الفضاء كما في الأرض لأن الصوت يحتاج إلى وسيط، لكن هناك ظواهر فيزيائية أخرى مثل الموجات الكهرومغناطيسية والموجات الراديوية تنتشر عبر الفراغ الكوني. قامت ناسا بتحويل هذه الموجات غير المسموعة أصلاً إلى نبضات صوتية يُمكن للأذن البشرية التقاطها. تكنولوجياً، تعرف هذه العملية بـ "تحويل البيانات إلى صوت" (Sonification)، حيث تحول بيانات الترددات والراديو القادمة من التلسكوبات، مثل تلسكوب هابل أو المرصد شاندرا، إلى أصوات تحمل بصمة كل منطقة في الكون.

أغنية الثقب الأسود في عنقود برسي: أعجوبة صوتية
من أشهر تسجيلات "أغنية الكون" هي الأصوات القادمة من الثقب الأسود الهائل في عنقود برسي (Perseus Cluster)، الذي يبعد حوالي 240 مليون سنة ضوئية عن كوكب الأرض. سجلت أجهزة ناسا موجات ضغط مرتبطة بنشاطات هذا الثقب الأسود، وعندما حولت البيانات إلى أصوات، ظهرت لنا طبقات عميقة على شكل نغمات منخفضة ومسترسلة، حتى وصفها البعض بأنها أصوات أقرب لما يسمى بـ "الأنين الكوني". وذكر العلماء أن طول الموجة المنتجة هنا أقل من ذلك الذي يستطيع الإنسان سماعه، ومع ذلك فقد حولت التكنولوجيا هذا التردد المنخفض إلى مجال نتمكن من سماعه، وبالتالي استطعنا الاستماع فعلياً إلى صوت ثقب أسود للمرة الأولى في التاريخ.
ماذا تكشف لنا أصوات الكون عن أسراره؟
هذه الأغاني الكونية ليست مجرد أصوات غريبة، بل تحمل في طياتها ثروة من المعلومات العلمية. فهي تساعد العلماء في:
- دراسة بنية المجرات وطبيعتها
- فهم كيفية تفاعل الثقوب السوداء مع محيطها
- تتبع حركة موجات الجاذبية والغازات في الفضاء
- كشف أسرار الظواهر الكونية النادرة مثل الانفجارات النجمية والاندماجات المجرية
- التحقيق في أصل وتطور الكون عبر تحليل "صوت" الخلفية الكونية الميكرويّة
من خلال تحليل هذه الأصوات، يصبح من الممكن تطوير نماذج متقدمة عن نشأة المجرات وأسباب تغيرها عبر الزمن، وهو ما يُحدث ثورة في فهمنا للكون.

هل يمكن الاستماع إلى أغنية الكون في كل بيت؟
بفضل تقدم التكنولوجيا، لم تعد "أغنية الكون" حكراً على العلماء أو موظفي الوكالات الفضائية. فقد أتاحت وكالة ناسا للجمهور إمكانية الاستماع إلى هذه الأصوات عبر منصاتها الرقمية، حيث يمكن لأي شخص الدخول إلى موقعها الرسمي أو قنواتها على يوتيوب وسماع مقاطع مسجلة لأصوات النجوم والثقوب السوداء. بعض الفنانين حتى قاموا باستخدام هذه الأصوات في أعمالهم الموسيقية، محولين العلم إلى تجربة فنية ملهمة. ومع أن كثيرين وصفوا هذه الأصوات بأنها "غامضة" و"تبعث على السكينة"، إلا أنها تمنح المستمع شعوراً مذهلاً بالانتماء إلى كون واسع يتحرك بنغماته الخاصة.
انتشار تسجيلات أغنية الكون أوجد موجة من الاهتمام الشعبي حول أصوات الفضاء، وغيرت نظرتنا لنظام الكون من فراغ صامت إلى مكان تعج فيه الحياة النشطة والموجات المستمرة. إعادة الاستماع لهذه الأصوات جعلت العديد من الناس يدركون جمال وعظمة الكون، وأكدت أهمية الاستثمار في علوم الفضاء لفهم مستقبل البشرية. كما أن الأصوات ألهمت جيلاً جديداً من العلماء والفنانين، وأكدت أن الفضاء، مهما بدا بعيداً، ليس مجرد فضاء خالٍ بل هو عالم ينبض بالحركة والأسرار التي لم نكشف منها سوى القليل.