ليس من الغريب أن تضع سنغافورة قوانين صارمة في شتى مناحي الحياة، فهي تعرف بنظافتها الاستثنائية وتدني معدل الجريمة بشكل يُبهر الزوار. ولكن من القوانين التي تثير الدهشة وتدعو للتساؤل بين المسافرين حول العالم حظر بيع العلكة داخل حدود هذه الدولة الصغيرة. قد يبدو هذا الأمر مجرد مزحة أو شائعة، إلا أنه حقيقة قانونية قائمة منذ سنوات ولها جذور في سياسة واضحة تهدف إلى نمط حياة معين يميز سنغافورة عن غيرها.
العديد من الذين يزورون سنغافورة لأول مرة يندهشون عندما يعلمون أن شراء علبة علكة من المتجر أمر غير ممكن. السبب ليس اقتصادياً أو لدعم منتج آخر، بل يعود إلى إجراءات حكومية مدروسة بعمق أطلقتها السلطات إثر أزمة مرتبطة بالعادات المدنية والنظافة العامة. هذه الأزمة بدأت في التسعينيات من القرن الماضي، وتحديداً بعد افتتاح شبكة مترو الأنفاق الحديثة.
كانت سنغافورة تشهد مشاكل متكررة بسبب إهمال البعض ورمي العلكة الممضوغة في الشوارع، المصاعد، وحتى داخل عربات المترو، وهو ما كان يؤدي ليس فقط إلى مظهر غير حضاري بل وأيضاً إلى أعطال ميكانيكية مكلفة عند التصاق هذه القطع الصغيرة في أبواب القطارات الإلكترونية. فقد وردت تقارير عن أعطال أجبرت مشغلي المترو على إصلاح الأبواب مراراً بسبب التصاق العلكة بها، ما عطل الحركة وأضر بالحياة اليومية والاقتصاد المحلي بشكل ملحوظ.
الحكومة السنغافورية معروفة بأنها لا تتساهل مع القضايا التي تتعلق بالنظام العام. لهذا في عام 1992 اتخذت قراراً جريئاً بحظر استيراد وبيع العلكة في جميع المحلات التجارية ومنافذ البيع. لم يكن الأمر سهلاً على الجميع، حيث اعتبر بعض المواطنين والسياح هذا التدبير قاسياً ومبالغاً فيه، لكن السلطات اعتبرته ضرورياً للحفاظ على بيئة نظيفة ونظام نقل عام فعال.
لم يكن هذا الحظر مجرد قرار عابر، بل تم فرض عقوبات صارمة على من يخالفه. تصل هذه العقوبات إلى غرامات مالية مرتفعة للغاية، وقد تترافق أحياناً مع العمل الاجتماعي الإجباري. الفكرة من وراء هذا التشديد هي زرع قيم الانضباط والالتزام في المجتمع وضمان تحقيق البيئة الحضرية المثالية التي تطمح لها الحكومة.
رغم أن حظر العلكة كان محط جدل عالمي وأثار انتقادات واسعة من منظمات الحقوق والحريات وحتى من بعض السياسيين الغربيين، إلا أن سنغافورة استمرت في تطبيق سياستها بنجاح. ولا تزال نتائج القرار واضحة حتى اليوم، حيث يعد نظام النقل العام فيها من أنظف وأكثر الأنظمة انضباطًا في العالم، بينما تُسجل معدلات نظافة الشوارع أرقاماً قياسية.
بعد سنوات من التطبيق الصارم للحظر، اضطرت السلطات نتيجة للضغوط الخارجية خصوصًا من الولايات المتحدة للموافقة على بعض الاستثناءات. ففي عام 2004، تم السماح باستيراد وبيع أنواع معينة من العلكة العلاجية، مثل تلك التي تساعد على تنظيف الأسنان أو الإقلاع عن التدخين، ولكن ذلك فقط بموجب وصفة طبية ومن صيدليات مرخصة تحديداً. لم يكن الهدف من هذا التخفيف السماح بعودة العلكة العادية، بل تحقيق توازن بين السياسة الصحية والمتطلبات الطبية.
الأغرب أن هذا الحظر أصبح رمزاً لسياسة سنغافورة الصارمة في الإدارة الحضرية، فهو بلا شك ترك بصمة في وعي السكان وفي ذاكرة السياح. إذ يعتبر البعض أن هذا الحظر درس عملي في مدى قدرة القوانين المنظمة على تغيير سلوكيات واسعة النطاق في المجتمع.
ما يثير الدهشة فعلاً أن نجاح الحظر لا يرتبط بالعلكة فقط، بل هو جزء من منظومة متكاملة من القوانين التي تتعلق بالنظافة والانضباط، مثل منع البصق في الطريق، وإجبار أصحاب الحيوانات الأليفة على تنظيف فضلاتهم، وفرض غرامات على رمي النفايات بطريقة عشوائية. هذا التكامل هو ما جعل من سنغافورة مضرب المثل في العالم في مجال الإدارة الناجحة للمدن.
لا يمكن إنكار التحديات التي يواجهها مثل هذا النظام، فهناك من يرى فيه تقييداً للحريات الفردية، إلا أن الجانب الآخر يؤكد في كل مرة أن النظافة والالتزام هما سر نجاح سنغافورة المتألق في شتى المجالات، من الاقتصاد إلى السياحة وحتى جودة الحياة فيها بشكل عام.
في زحمة المدن المليئة بالفوضى اليومية، تشكل سنغافورة استثناءً حديثاً. فالكل هنا مدعو للمشاركة في الحفاظ على مستوى راقٍ من النظافة والنظام، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن عادة بسيطة كشرب العلكة في الشارع.
ولا تقتصر أهمية الحظر على الحفاظ على المظهر الجمالي فقط، بل تمتد تأثيراته الإيجابية إلى الحد من انتشار الحشرات والأوساخ والروائح غير المرغوبة، مما جعل من سنغافورة نموذجاً يحتذى به في سياسات المدن الذكية والنظيفة حول العالم.
في نهاية المطاف، تجربة سنغافورة في حظر العلكة تثير إعجاب الكثيرين وتدفع للتساؤل: هل فعلاً يمكن لقانون بسيط أن يصنع فرقاً كبيراً في حياة الملايين؟ الإجابة، على الأقل في سنغافورة، نعم وبلا تردد، وهذا ما يجعل قصتها في حظر العلكة واحدة من بين أغرب وأهم القوانين الحضارية في العالم الحديث.